فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والليل إِذَا يغشى} أي يُغَطِّي.
ولم يذكر معه مفعولاً للعلم به.
وقيل: يغشى النهار.
وقيل: الأرض.
وقيل: الخلائق.
وقيل: يغشى كل شيء بظلمته.
وروى سعيد عن قتادة قال: أولُ ما خلق الله النور والظلمة، ثم مَيَّز بينهما، فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلِماً، والنور نهاراً مضيئاً مبصِراً.
{والنهار إِذَا تجلى} أي إذا انكشف ووضح وظهر، وبان بضوئه عن ظلمة الليل.
{وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} قال الحسن: معناه والذي خلق الذكر والأنثى؛ فيكون قد أقسم بنفسه عز وجل.
وقيل: معناه وخلق الذكر والأنثى؛ فَـ: {ما}: مصدرية على ما تقدم.
وأهل مكة يقولون للرعد: سُبْحان ما سَبَّحتَ لَه! فَـ: {ما} على هذا بمعنى (مَنْ)، وهو قول أبي عبيدة وغيره.
وقد تقدّم.
وقيل: المعنى وما خلق من الذكر والأنثى؛ فتكون (من) مضمرة، ويكون القسم منه بأهل طاعته، من أنبيائه وأوليائه، ويكون قسمه بهم تكرمة لهم وتشريفاً.
وقال أبو عبيدة: {وما خلق} أي مَنْ خلق.
وكذا قوله: {والسماءِ وما بناها}، {ونفس وما سواها}، {ما} في هذه المواضع بمعنى منْ.
ورُوي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: {والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى} ويسقط {وما خلق}.
وفي صحيح مسلم عن علقمة قال: قدمنا الشام، فأتانا أبو الدرداء، فقال: فيكم أحد يقرأ على قراءة عبد الله؟ فقلت: نعم، أنا.
قال: فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية {والليل إِذَا يغشى}؟ قال: سمعته يقرأ: {والليلِ إذا يغشى والذكر والأنثى} قال: وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ: {وما خلق} فلا أتابعهم.
قال أبو بكر الأنباريّ: وحدثنا محمد بن يحيى المروزيّ قال حدثنا محمد قال حدّثنا أبو أحمد الزبيريّ قال حدّثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم {إني أنا الرازق ذو القوّة المتِين}؛ قال أبو بكر: كل من هذين الحديثين مردود؛ بخلاف الإجماع له، وأن حمزة وعاصماً يرويان عن عبد الله بن مسعود ما عليه جماعة المسلمين، والبناء على سندين يوافقان الإجماع أولى من الأخذ بواحد يخالفه الإجماع والأمة، وما يبنى على رواية واحد إذا حاذاه رواية جماعة تخالفه، أخذ برواية الجماعة، وأبطل نقل الواحد؛ لما يجوز عليه من النسيان والإغفال.
ولو صح الحديث عن أبي الدرداء وكان إسناده مقبولاً معروفاً، ثم كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم يخالفونه، لكان الحكم العمل بما روته الجماعة، ورفض ما يحكيه الواحد المنفرد، الذي يسرع إليه من النسيان ما لا يسرع إلى الجماعة، وجميع أهل الملة.
وفي المراد بـ: {الذكر والأنثى} قولان:
أحدهما: آدم وحوّاء؛ قاله ابن عباس والحسن والكلبيّ.
الثاني: يعني جميع الذكور والإناث من بني آدم والبهائم؛ لأن الله تعالى خلق جميعهم من ذكر وأنثى من نوعهم.
وقيل: كل ذكر وأنثى من الآدميين دون البهائم لاختصاصهم بولاية الله وطاعته.
{إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} هذا جواب القسم.
والمعنى: إن عملكم لمختلف.
وقال عكرمة وسائر المفسرين: السعي: العمل؛ فساعٍ في فَكاك نفسه، وساعٍ في عَطَبها؛ يدل عليه قوله عليه السلام: «الناس غاديان: فمبتاع نفسه فمعتِقها، وبائع نفسه فموبِقها» وشتى: واحده شتيت؛ مثل مريض ومرضى.
وإنما قيل للمختلف شتى لتباعد ما بين بعضه وبعضه.
أي إنّ عملكم لمتباعد بعضه من بعض؛ لأن بعضه ضلالة وبعضه هدى.
أي فمنكم مؤمن وبر، وكافر وفاجر، ومطيع وعاصٍ.
وقيل: {لشتى} أي لمختلف الجزاء؛ فمنكم مثاب بالجنة، ومعاقب بالنار.
وقيل: أي لمختلف الأخلاق؛ فمنكم راحم وقاس، وحليم وطائش، وجواد وبخيل؛ وشبه ذلك.
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتقى (5)} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} قال ابن مسعود: يعني أبا بكر رضي الله عنه؛ وقاله عامة المفسرين.
فروِي عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر يُعْتق على الإسلام عجائز ونساء، قال: فقال له أبوه قحافة: أي بني! لو أنك أعتقت رجالاً جُلْداً يمنعونك ويقومون معك؟ فقال: يا أبت إنما أريد ما أريد.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أعطى} أي بذل.
{واتقى} أي محارم الله التي نَهَى عنها.
{وَصَدَّقَ بالحسنى} أي بالخَلَف من الله تعالى على عطائه.
{فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ومَلَكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقاً خَلَفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تَلَفاً» وروي من حديث أبي الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم غَرَبَت شمسه إلا بُعِث بجنبتها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثَّقَلين: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأَعطِ ممسِكاً تلفاً» فأنزل الله تعالى في ذلك في القرآن {فَأَمَّا مَنْ أعطى...} الآيات.
وقال أهل التفسير: {فَأَمَّا مَنْ أعطى} المُعْسِرين.
وقال قتادة: أعطى حق الله تعالى الذي عليه.
وقال الحسن: أعطى الصدق من قلبه.
{وَصَدَّقَ بالحسنى} أي بلا إله إلا الله؛ قاله الضحاك والسلمي وابن عباس أيضاً.
وقال مجاهد: بالجنة؛ دليله قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]...
الآية.
وقال قتادة: بموعود الله الذي وعده أن يثيبه.
زيد بن أسلم: بالصلاة والزكاة والصوم.
الحسن: بالخَلَف من عطائه؛ وهو اختيار الطبريّ.
وتقدم عن ابن عباس، وكله متقارب المعنى إذ كله يرجع إلى الثواب الذي هو الجنة.
الثانية: قوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} أي نرشده لأسباب الخير والصلاح، حتى يسهل عليه فعلها.
وقال زيد بن أسلم: {لليسرى} للجنة.
وفي الصحيحين والترمذي عن علي رضي الله عنه قال: «كنا في جنازة بالبقِيع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس وجلسنا معه، ومعه عود ينكُتُ به في الأرض، فرفع رأسه إلى السماء فقال: ما مِن نفسٍ منفوسةٍ إلا قد كتِب مدخلها. فقال القوم: يا رسول الله، أفلا نتكِل على كتابنا؟ فمن كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء.
قال: بل اعملوا فكل ميسر؛ أما من كان من أهل السعادة فإنه يُيَسَّر لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه ييسر لعمل الشقاء ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى}»
لفظ الترمذيّ.
وقال فيه: حديث حسن صحيح.
«وسأل غلامان شابان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: العمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم في شيء يستأنف؟ فقال عليه السلام: بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير. قالا: ففيم العمل؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لعمل الذي خلق له. قالا: فالآن نجِد ونعمل».
الثالثة: قوله تعالى: {وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى} أي ضنّ بما عنده، فلم يبذل خيراً.
وقد تقدّم بيانه وثمرته في الدنيا في سورة (آل عمران).
وفي الآخرة مآله النار، كما في هذه الآية.
روى الضحاك عن ابن عباس {فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} قال: سوف أحول بينه وبين الإيمان بالله وبرسوله.
وعنه عن ابن عباس قال: نزلت في أمية بن خلف وروى عكرمة عن ابن عباس: {وأما من بخِل واستغنى} يقول: بخِل بمالِه، واستغنى عن ربه.
{وَكَذَّبَ بالحسنى} أي بالخلف.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: {وكذب بالحسنى} قال: بالجنة.
وبإسناد عنه آخر قال: {بالحسنى} أي بلا إله إلا الله.
{فَسَنُيَسِّرُهُ} أي نسهل طريقه.
{للعسرى} أي للشر.
وعن ابن مسعود: للنار.
وقيل: أي فسنعسر عليه أسباب الخير والصلاح حتى يصعب عليه فعلها.
وقد تقدّم: أن الملك ينادي صباحاً ومساءً: «اللهم أعطِ منفِقاً خلفاً، وأعط ممسِكاً تلفاً» رواه أبو الدرداء.
مسألة: قال العلماء: ثبت بهذه الآية وبقوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، وقوله: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} [البقرة: 274] إلى غير ذلك من الآيات أن الجود من مكارم الأخلاق، والبخل من أرذلها.
وليس الجواد الذي يعطي في غير موضع العطاء، ولا البخيل الذي يمنع في موضع المنع، لكن الجواد الذي يعطي في موضع العطاء، والبخيل الذي يمنع في موضع العطاء، فكل من استفاد بما يعطي أجراً وحمداً فهو الجواد.
وكل من استحق بالمنع ذماً أو عقاباً فهو البخيل.
ومن لم يستفد بالعطاء أجراً ولا حمداً، وإنما استوجب به ذماً فليس بجواد، وإنما هو مسرف مذموم، وهو من المبذِّرين الذين جعلهم الله إخوان الشياطين، وأوجب الحجْر عليهم.
ومن لم يستوجب بالمنع عقاباً ولا ذماً، واستوجب به حمداً، فهو من أهل الرشد، الذين يستحقون القيام على أموال غيرهم، بحسن تدبيرهم وسداد رأيهم.
الرابعة: قال الفراء: يقول القائل: كيف قال: {فسنيسره للعسرى}؟ وهل في العسرى تيسير؟ فيقال في الجواب: هذا في إجازته بمنزلة قوله عز وجل: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]، والبِشارة في الأصل على المفرح والسارّ، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر، جاءت البشارة فيهما.
وكذلك التيسير في الأصل على المفرح، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر، جاء التيسير فيهما جميعاً.
قال الفراء: وقوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ}: سنهيئه.
والعرب تقول: قد يَسَّرَتِ الغنم: إذا ولدت أو تهيأت للولادة.
قال:
هما سيدانا يزعمان وإنما ** يَسُودانِنا أن يَسَّرتْ غَنماهما

قوله تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} أي مات.
يقال: رَدِيَ الرجُل يَرْدَى رَدًى: إذا هلك.
قال:
صرفت الهوى عنهنّ من خشية الردى

وقال أبو صالح وزيد بن أسلم: {إذا تردى}: سقط في جهنم؛ ومنه المتردّية.
ويقال: رَدِي في البئر وتردى: إذا سقط في بئر، أو تهوّر من جبل.
يقال: ما أدري أين رَدِيَ؟ أي أين ذهب.
و{ما}: يحتمل أن تكون جحداً؛ أي ولا يغني عنه ماله شيئاً؛ ويحتمل أن تكون استفهاماً معناه التوبيخ؛ أي أيّ شيء يغني عنه إذا هلك ووقع في جهنم. اهـ.

.قال ابن كثير:

تفسير سورة الليل:
وهي مكية.
تقدم قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ: «فهلا صليت بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى} {وَالشَّمْسِ وضحاها} {وَاللَّيْلِ إِذَا يغشى}؟».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَاللَّيْلِ إِذَا يغشى (1)}
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة: أنه قدم الشام فدخل مسجد دمشق، فصلى فيه ركعتين وقال: اللهم، ارزقني جليسًا صالحًا.
قال: فجلس إلى أبي الدرداء، فقال له أبو الدرداء: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة.
قال: كيف سمعت ابن أم عبد يقرأ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يغشى وَالنَّهَارِ إِذَا تجلى}؟ قال علقمة: {والذكر والأنثى}. فقال أبو الدرداء: لقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال هؤلاء حتى شككوني. ثم قال: ثم ألم يكن فيكم صاحب الوساد وصاحب السر الذي لا يعلمه أحد غيره، والذي أجير من الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم؟.
وقد رواه البخاري هاهنا ومسلم، من طريق الأعمش، عن إبراهيم قال: قدم أصحاب عبد الله على أبي الدرداء، فطلبهم فوجدهم، فقال: أيكم يقرأ على قراءة عبد الله؟ قالوا: كلنا، قال: أيكم أحفظ؟ فأشاروا إلى علقمة، فقال: كيف سمعته يقرأ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يغشى}؟ قال: {والذكر والأنثى}.
قال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هكذا، وهؤلاء يريدوني أن أقرأ: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى} والله لا أتابعهم.
هذا لفظ البخاري: هكذا قرأ ذلك ابن مسعود، وأبو الدرداء- ورفعه أبو الدرداء- وأما الجمهور فقرأوا ذلك كما هو مُثبَت في المصحف الأمام العثماني في سائر الآفاق: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى} فأقسم تعالى بـ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يغشى} أي: إذا غَشيَ الخليقةَ بظلامه، {وَالنَّهَارِ إِذَا تجلى} أي: بضيائه وإشراقه، {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى} كقوله: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ: 8]، وكقوله: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49].
ولما كان القسم بهذه الأشياء المتضادة كان القسم عليه أيضا متضادا؛ ولهذا قال: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} أي: أعمال العباد التي اكتسبوها متضادة أيضًا ومتخالفة، فمن فاعل خيرا ومن فاعل شرا.
قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتقى} أي: أعطى ما أمر بإخراجه، واتقى الله في أموره، {وَصَدَّقَ بالحسنى} أي: بالمجازاة على ذلك- قاله قتادة، وقال خَصِيف: بالثواب.
وقال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو صالح، وزيد بن أسلم: {وَصَدَّقَ بالحسنى} أي: بالخلف.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك: {وَصَدَّقَ بالحسنى} أي: بلا إله إلا الله. وفي رواية عن عكرمة: {وَصَدَّقَ بالحسنى} أي: بما أنعم الله عليه. وفي رواية عن زيد بن أسلم: {وَصَدَّقَ بالحسنى} قال: الصلاة والزكاة والصوم.
وقال مرة: وصدقة الفطر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا زُهَير بن محمد، حدثني مَن سَمِع أبا العالية الرياحي يُحدث عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسنى قال: «الحسنى: الجنة».
وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} قال ابن عباس: يعني للخير.
وقال زيد بن أسلم: يعني للجنة.
وقال بعض السلف: من ثواب الحسنةُ الحسنة بعدها، ومن جزاء السيئة السيئةُ بعدها؛ ولهذا قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} أي: بما عنده، {واستغنى} قال عكرمة، عن ابن عباس: أي بخل بماله، واستغنى عن ربه، عز وجل. رواه ابن أبي حاتم.
{وَكَذَّبَ بالحسنى} أي: بالجزاء في الدار الآخرة.
{فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} أي: لطريق الشر، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 11]، والآيات في هذا المعنى كثيرة دالة على أن الله، عز وجل، يُجازي من قصد الخير بالتوفيق له، ومن قصد الشر بالخذلان. وكل ذلك بقدر مُقدّر، والأحاديث الدالة على هذا المعنى كثيرة:
رواية أبي بكر الصديق، رضي الله عنه: قال الإمام أحمد: حدثنا على بن عَيَّاش، حدثني العطاف بن خالد، حدثني رجل من أهل البصرة، عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن أبيه قال: سمعت أبي يذكر أن أباه سمع أبا بكر وهو يقول: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنعمل على ما فرغ منه أو على أمر مؤتنف؟ قال: «بل على أمر قد فُرغ منه».
قال: ففيم العملُ يا رسول الله؟ قال: «كل ميسر لما خلق له».
رواية علي رضي الله عنه: قال البخاري، حدثنا أبو نعيم: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَقِيع الغَرْقَد في جنازة، فقال: «ما منكم من أحد إلا وقد كُتب مقعده من الجنة ومقعده من النار». فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل؟ فقال: «اعملوا، فكل ميسر لما خلق له».
قال: ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} إلى قوله: {للعسرى}.
وكذا رواه من طريق شعبة ووَكِيع، عن الأعمش، بنحوه ثم رواه عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير، عن منصور، عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخْصَرَةٌ فَنَكَسَ فجعل ينكُت بمخصرته، ثم قال: «ما منكم من أحد- أو: ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة». فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى أهل الشقاء؟ فقال: «أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاء فييسرون إلى عمل أهل الشقاء». ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} الآية.
وقد أخرجه بقية الجماعة، من طرق، عن سعد بن عبيدة، به. ورواه الترمذي في القدر، عن بندار، عن ابن مَهْدِي، به وقال: حسن صحيح.
حديث آخر من رواية جابر: قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو ابن الحارث، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أنه قال: يا رسول الله، أنعمل لأمر قد فرغ منه، أو لأمر نستأنفه؟ فقال: «لأمر قد فرغ منه». فقال سراقة: ففيم العمل إذًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل عامل مُيَسَّر لعمله». ورواه مسلم عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، به.
حديث آخر: قال ابن جرير: حدثني يونس، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طلق ابن حبيب، عن بشير بن كعب العدوي قال: سأل غلامان شابان النبي صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله، أنعمل فيما جَفَّت به الأقلام وجَرَتْ به المقادير، أو في شيء يستأنف؟ فقال: «بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير».
قالا ففيم العمل إذًا؟ قال: «اعملوا فكل عامل ميسر لعمله الذي خلق له».
قالا فالآن نجد ونعمل.
رواية أبي الدرداء: قال الإمام أحمد: حدثنا هَيْثَم بن خارجة، حدثنا أبو الربيع سليمان بن عتبة السلمي، عن يونس بن ميسرة بن حَلْبس، عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء قال: قالوا: يا رسول الله، أرأيت ما نعمل، أمر قد فُرغ منه أم شيء نستأنفه؟ قال: «بل أمر قد فرغ منه».
قالوا: فكيف بالعمل يا رسول الله؟ قال: «كل امرئ مهيأ لما خلق له».
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
حديث آخر: قال ابن جرير: حدثني الحسن بن سلمة بن أبي كَبْشَة، حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا عباد بن راشد، عن قتادة، حدثني خُلَيد العصري، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم غربت فيه شمسه إلا وبجَنْبَتَيْهَا ملكان يناديان بصوت يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفًا». وأنزل الله في ذلك القرآن: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى}.
ورواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن ابن أبي كبشة، بإسناده مثله.
حديث آخر: قال ابن أبي حاتم: حدثني أبو عبد الله الطهراني، حدثنا حفص بن عُمَر العَدَاني، حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن رجلا كان له نخل، ومنها نخلة فرعها إلى دار رجل صالح فقير ذي عيال، فإذا جاء الرجل فدخل داره وأخذ الثمر من نخلته، فتسقط الثمرة فيأخذها صبيان الفقير فنزل من نخلته فَنزع الثمرة من أيديهم، وإن أدخل أحدهم الثمرة في فمه أدخل أصبعه في حلق الغلام ونزع الثمرة من حلقه. فشكا ذلك الرجلُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما هو فيه من صاحب النخلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهب». ولقي النبي صلى الله عليه وسلم صاحب النخلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة» فقال له: لقد أعطيت، ولكن يعجبني ثمرها، وإن لي لنخلا كثيرًا ما فيها نخلة أعجب إلي ثمرة من ثمرها. فذهب النبي صلى الله عليه وسلم فتبعه رجل كان يسمع الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صاحب النخلة. فقال الرجل: يا رسول الله، إن أنا أخذت النخلة فصارت لي النخلة فأعطيتها أتعطيني بها ما أعطيته بها نخلة في الجنة؟ قال: «نعم». ثم إن الرجل لقي صاحب النخلة، ولكلاهما نخل، فقال له: أخبرك أن محمدًا، قد أعطاني بنخلتي المائلة في دار فلان نخلة في الجنة، فقلت، له: قد أعطيتُ ولكن يعجبني ثمرها. فسكت عنه الرجلُ، فقال له: أتُراك إذا بعتها؟ قال: لا إلا أن أعطى بها شيئًا، ولا أظنني أعطاه.
قال: وما مناك بها؟ قال: أربعون نخلة. فقال الرجل: لقد جئتَ بأمر عظيم، نخلتك تطلب بها أربعين نخلة؟! ثم سكتا وأنشأ في كلام آخر ثم قال: أنا أعطيتك أربعين نخلة، فقال: أشهد لي إن كنت صادقا. فأمر بأناس فدعاهم فقال: اشهدوا أني قد أعطيته من نخلي أربعين نخلة بنخلته التي فرعها في دار فلان ابن فلان. ثم قال: ما تقول؟ فقال صاحب النخلة: قد رضيت. ثم قال بعدُ: ليس بيني وبينك بيع لم نفترق قال له: قد أقالك الله، ولست بأحمق حين أعطيتك أربعين نخلة بنخلتك المائلة. فقال صاحب النخلة: قد رضيتُ على أن تعطيني الأربعين على ما أريد.
قال: تعطينيها على ساق. ثم مكث ساعة، ثم قال: هي لك على ساق وأوقف له شهودًا وعد له أربعين نخلة على ساق، فتفرقا، فذهب الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن النخلة المائلة في دار فلان قد صارت لي، فهي لك. فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرجل صاحب الدار فقال له: «النخلة لك ولعيالك».
قال عكرمة: قال ابن عباس: فأنزل الله عز وجل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يغشى} إلى قوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} إلى آخر السورة.
هكذا رواه ابن أبي حاتم، وهو حديث غريب جدًا.
قال ابن جرير: وذكر أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق، رضي الله عنه: حدثني هارون ابن إدريس الأصم، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد ابن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه: أي بني، أراك تعتق أناسًا ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالا جُلَداء يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك؟! فقال: أيْ أبَت، إنما أريد- أظنه قال- ما عند الله: قال: فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية أنزلت فيه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى}.
وقوله: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} قال مجاهد: أي إذا مات.
وقال أبو صالح، ومالك عن زيد بن أسلم: إذا تردى في النار. اهـ.